
مذكرات علي ابجا بوح الصمت
2بوح الصمت
فوق وِثار من بساط الخيال،منعم بالصفاء النقي نقاء عذراء حاصن،لا تشوبه جُهْنة،ولا تلفحه ندبات حاصِبٍ معكِّرة،تتناسل مويجات بنات الفكر في سكينة تنآى برَحْلها عن كل تَيَّاح مشاغب يؤرجحها مدُّ التأمُّل وجَزْره،وكأنه أمٌّ تقرفصتْ إلى جانب أعمدة "امسندا "وجار لبنها تشبعه مخضا حتى يَشْفُوَ زبده على نغم الحان عجائز الخيام "سندو بحو سندو كشول "......
على اريكة من "اجدير" مؤثثة بظل حَدِيرٍ غير ظليل لنبات الدوم "تِيكزطمت "حَرَدَتْ بِيَ الخطى هاجرا حِدْلَ الملاسن ،وبَهَّاتي المجامع و بَقَابِقِهم ، استلقيت بجسد شَسُوفٍ بالكاد يتحمل وخز الطوب من تحته، عزاؤه ان استحلى الاسترخاء في جو ربيعي يفيض نقاء و طراوة ، يتنافس فيه الشهيق و الزفير على شذرات نسائمه التي لا مقدور للحكومة على تقنينها.......
احسست وكان الكون ملك يدي، فارخيت العنان لشيطان الخيال يسكر مترنحا من سلاف هذا الجو الربيعي ، و يرتع انى شاء في مروج روض تراءى لي وكانه جنيس فردوس مفقود ،تتمايل فيه الشَّقارى في الحقول بين أَشْطاءِ زروعه........
تاهت بِيَ المنافذ ، وانا اركب بساطا يقتحم بَائِصَ السبل التي استعصت على علاء الدين و راحلته ، خصوصا واني بالوضع الذي انا عليه قد اتخذت لنفسي عرشا يسمو في الزمان و المكان عن بَقْبَقَةِ العالقين في مستنقع السفح ، أَنأى عن كل ادرانه التي تتلون شراكها بالوان الشُّقَّذِ ، بغية اقحامي في غمرة سبل السَّوْأى ،ليعمنا جميعا وَصَبُ آكلي الاعراض............................
هدوء ليـــــــــلي هاهنا يغريني.......والخيال خيله مرخــــــى العنـان
لا امتطي الودماء من حروفي ......ولي سرج فوق السنابك السمان
ومرآة نفسي تعكس الف منظر......دقيقة التفاصيل باركان المكان
ينط شيطان السحر من راسها......وعمر الشيطان من عمر الزمان
للمرآة غذاء الاميـــــــــــرات وإن ......اثاث الموائد من شُحِّ البيــــــان
للنحل خلايا عفيفة نفوســــها ......بطلح القريض موشاة الابــــدان
تسجيل الحضور ورد غيابها.....والاصل باد في كنه المعــــــــــــــــاني
للصمت صمت واثق الخطى....يمشي الهوينا محفوف الامــــــــــان
كل اعيرة الموازين بقبضته ......كما الفراخ لا تطير الا بالاوان
كفوا الملام يا معشر اللئام ......فسكون المنام ارحام الحنـــــــــان
و كل الجمال الحشا مرقده.......والحكمة حِدْجُها معان بـِطــــــــــان
و ادران اللغط بقرع الطبول......كما في اللغو علل اللســــــــــــــــــــــان
علي
بوح الصمت (3)
عدت بالذاكرة الى الوراء ، سافرت آيبا في الزمان الى عالم كنا نملأ فيه مداخل الدوار نطاًّ لا نعبأ بالوَصْبِ و لا نخشى الجوْس ، لان جوائشنا الغضة لم تكن تستوعب معنى المشقة ولا تدرك الجُهَيْدى التي يبذلها آباؤنا لتوفير لقمة العيش...
اكيد انها ليست اهمالا او تقصيرا ، هي فقط براءة اطفال لم تحنكها بعد خشونة الايام التي تمهلهم ليقينها ان الدور قادم عليهم مستقبلا ، فليتركوا اذن مُرَّ السَّوْلعِ على عسر الدهر للكبار ، ولينطلقوا في عالم لا يُرَى لهم منه الا جناح اللعب واللهو والاستمتاع...
تتفتق أصباحهم وقد شدهم الحنين الى جنائن "الربع" ، فيبكرون اليها يتلصصون السبل الى اغراسها لا يثنيهم مستنقع بَعِضٌ ، ولا سياج شائك، يختبسون ما تدلى من قطوفها الدانية الناضجة وهي لا زالت تنتشي ببرودة النسائم الصباحية ، لا يردعهم سوى الخوق ممن صادف مرورهم تواجده ببستانه ، فيتنحون عن ناظريه ، وانظارهم على كل مثمر يانع حالت يقظة صاحبه دون عبثهم باغراسه ،وبما ان المالك يتكبد عناء الحراسة فلا شك ان المحروس قد يستحق المجازفة ، استرق احدهم نظرة فهمس لزملائه
ــ واهْ يَا الّْخُوخْ دِهَا مَيَنّْ إِورّْغْ ــ
على الفور رد آخر
ـــ وِدّْ إِدِ غْريسْنْ خْيِيطْ والله تَكّْسَغ يمَّاسْ ــ
انه الاجماع اذن على مغامرة ليلية جديدة ، وما اكثر مثيلاتها خصوصا في الليالي الصيفية ، بعد العودة من الاعراس التي يواظبون على حضورها بالدواوير المجاورة...
لم يكن تفرقهم شَذَر مَذَر في تلك البساتين و الليل قد اغسم و اشتدت دهمته طاعة لامر اب او تلبية لرغبة وَلِيّ ، ولا طلبا لعمل خيري يبوء بالنفع على الساكنة ، وانما كانت مغامرة جديدة تنضاف الى سجل الطيش الذي يؤرخ لمغامرات الاطفال بهذه المنطقة ، لا يحكمها الا قانون العبث والاستمتاع بالنواذر و الطرائف التي تغدو بعد ذلك حديث المجامع من اجل الفرجة والضحك...
عليك ان تكون دائما متأهِّبا و على حذر وانت ترافق الشلة ، والا كنت ضحية دفعة طائشة في غدير نتن ، او سقوط في نبات " اخليج"الشائك ، او اي كمين آخر قد لا يخطر لك على بال..
ترتعد الافنان لمرورهم ، يختاطونها فتتمايل وتتلاطم اوراقها كما لو اجتاحتها عاصفة هوجاء ، لتترنح ثمارها هاوية تتلقفها الايادي، مشفشفة في سباق عشوائي لالتقاط اكبر كمية من الفاكهة ، تلتهمها اشداقهم دون تكليف انفسهم عناء تنظيفها من الشوائب والغبار،ولا عزل السالم من المنخور دودا ، فكل الجني طعام للبطون ، و" دُودُو من عوُدُو"
علــــــــــــــــــــــــــــــــــي
بوح الصمت (4
النط القفز اللهو و المرح ، المقالب النواذر و النكت ، المغامرات و الرحلات..كشكول من الانشطة التي تيسرها الطبيعة لاطفال في اعمار براعم الزهور الغضة ، يتفننون في ابتكار صنوف من الحوائل للافلات من الاعمال التي قد يجبرهم الآباء على المساعدة في مزاولتها ، ليغتنموا اويقات الاصباح والامساء مع الاقران يرتادون الرحاب والامكنة التي تظل شاهدة على كل مناوشات زيغهم...
الاصباح غالبا ما تُستَهلَك سويعاتها بالبساتين "الربع" "تالعينت" "البراج" "العين"..الا أن فضاء "تالعينت" كان يشكل الإستثناء بين هذه الأمكنة جميعها، واشلاء ذكرياته المترسبة باعماق ابناء البلدة يقف الزمان عاجزا عن محوها مهما خمطت هاماتهم و تجعدت اساريرهم..
ل"تالعينت"دلالات متعددة في النفوس: مياه رقراقة دائمة التدفق و الجريان، على هام منبعها تنتصب معلمة اثرية ذات فضل على الجميع،مدرسة لا يتجرأ جاحد انكار جميلها على كل ابناء المنطقة، بساتين خضراء تضفي رونقا على هذه اللوحة الربانية الساحرة للأَلْباب ، نهر لا يغمض له جفن ثجاج الصبيب آنذاك، تتدفق اليه مياه العيون صافية لا يعكرها خلوف معاصر الزيتون و لا درن مياه عادمة...انها مميزات استفرد بها المكان دون سواه، بالاضافة الى تموقعه الاستراتيجي الذي يشكل قاسما مشتركا بين الدواوير الثلاثة"اكركور" "جنان" و"تلعريت"..
لم يكن لاحد منا في ذلك العمر ما يكفي من التعفف حتى يستطيع مقاومة اغراء هذا الفردوس،اذ كان الجميع ينساق اليها سوق قطعان المراعي، فكنا نجوب سنابكها دونما كلل او ملل ندفع بعجلة الاستمتاع الى اقصى سرعة نغترف من الانتشاء حد الثمالة...
"تالعينت"فضاء يُرْتَاد صباحا،زوالا ،مساء و ليلا،،مكان مضياف جم الترحاب بالوافدين عليه في كل وقت و حين ،انه نبض الحياة خافق على الدوام....
"تالعينت" بيت حكمتنا، برلماننا،،فيه تعقد التجمعات :الاستعداد لمقابلة في كرة القدم، التهيئ لرحلة ،الاتفاق على الذهاب الى عرس ، التخطيط لسهرة ليلية ناهيك عن خطط السطو عن الجنائن والاغراس..كل شيئ ينسج هاهنا ، فهنا مركز القيادة...
من هنا ، وقد لفحنا وهج الاشماس الصيفية ، وباقدام غضة ياخذنا حُدَامُ الخطوات الى "تامدا نسبع نالطلبة"،المسالك وعرة بالصخور ،لكن رغبة العوم اقوى و اشد ،صخور مسننة من الجانبين ،واصرار اسن فى النفوس الصغيرة والعزائم اشد صلابة..تتعرى الاجساد ،فيبدا العرض البهلواني للقفز من اعالي الصخور ،حتى داخل الماء لا تخبو المكائد و المقالب، "تقار" قفز من "اشرشار" محاولات اغراق لارعاب من لا يتقن فن العوم..حتى اذا هدات شعاليل الشمس ، واسترخت اهدابها تعلن اندحارها نحو المغيب ، عدنا الادراج الى "تالعينت" نستعد لمقابلة في كرة القدم بمركب "الحوط"
اويقات لا ننكر ان الشوق اليها لا زال يسكننا وقد غزا الشيب رؤوسنا................(يتبع)
علــــــــــــــــي
بوح الصمت (5)
من مخيم "تالعينت"تنسرب الجموع حذامى الخطوات ، فرادى و زرافات ، في اتجاه "الحوط"،يحملون ما توفر من البسة رياضية ولو تباينت اشكالها والوانها ،كما ترى البعض متابطا احذية رياضية وقد اهترأ جلد أغلبها..
مع وصول آخر وافد الى مكان الملعب،الذي لا يحمل من مواصفات الملعب الا الاسم ،تتفرق الجموع لتنقيته من الحجارة وترصيفها على جنباته محددة خطوط التماس،تتم تسوية آثار الحرث وتفتيت الطوب بالاقدام، لتسوية كل كل جزء حَاقِف جَوِق ،ثم يتم تحديد مرمي كل جانب ويتم قياسها بالخطوات ،حتى اذا ما انتهى كل شيئ، انقسم الشباب الى فريقين في مراعاة دقيقة للتوازن في المهارات ،حتى تكون المنافسة شديدة ويكون عنصر التشويق حاضرا...
تعطى الانطلاقة ،ويبدأ اللعب بتمريرات هنا و هناك،وسرعان ما يحتدم الصراع لترى كرة من نوع "اديداس" تُطوح في الهواء وهي تئن من ركلات اقدام شبه حافية، لا تخضع لخطة معدة سلفا ،ولا يؤطرها اعداد ولا تدريب ،وكل ما في الامر، ان الاقدام تتقاذفها في اتجاه مرمى الخصم كيفما اتفق، إذ لماما ما يستمتع المتفرج ببعض اللقطات الفردية من فنيات بعض الماهرين في اللعبة،او بعض التمريرات المحكمة والتي كانت تعد على رؤوس الاصابع نظرا لارضية الملعب التي كانت لا تسمح بإتمامها على احسن وجه...
صراخ ،كَرٌّ و فَرٌّ،اندفاع ،تلاطم ،ترنح وسقوط ، نُبَّاغُ اتربة "الحوط"عالقة بكل ثنايا الاجساد ، حِدَام و جِدال عند ادنى تصادم ،تتوالى الهجومات سجال ،يتوالى الركض رغبة في امتلاك الكرة ،ركب مُوَسَّفَة بتوالي السقوط على الطوب ، وجروح سرعان ما تَنْخَمِص بعد تضميدها بطرف خرقة بالية...
كل فريق يبالغ في بذل الجهيدى لتجنب الخسارة ،في جو رياضي قلَّ نظيره اليوم حتى في المباريات الوطنية...
تغيب آواخر فلول الشمس خلف الافق ،وتخمد انفاسها رويدا رويدا،تخلفها غبشات من الظلام، وتعجز الابصار عن ملاحقة مسار الكرة ، ليبدا الانسحاب تدريجيا من الملعب ،لتنتهي المباراة كما بدأت ،بتمريرات بين من بقي صامدا فوق الملعب ،وكانها تمرينات تدريبية...
يعودون ادراجهم الى المنبع،باجساد منهكة تجر أقداما بنية اللون مما علق بها من أتربة كما لو كانت مطلية بمسحوق الحناء...
يتجوقون حول صهريج المنبع ،ينظفون الاجساد المتسخة ،يغترفون بالاكف من الماء الزلال ويهرقون على الاجساد المُشَفْشَفة من برودة الينبوع ،ثم ينصرفون وقد هدهم الديقوع بعد ان ضربوا لبعضهم موعدا للتسامر بعد العشاء...........(يتبع)
علي
بوح الصمت ـــ6 ـــ
كانت مقابلات "الحوط" تستحود على أماسي ايام الاحد والعطل على حد سواء، ولم يكن إدماننا على اللعبة ليخلو من ملاسنات و ازدراء ودعابة في إطار فرجوي لا يتعدى حدود البسط و الدعابة، فاستباحت الالسن إطلاق ألقاب على البعض إما لتقنيات لعبهم و إما لافعال او عادات ياتونها،ألفتها الافواه واعتادت عليها السن الجميع ،فالتصقت باصحابها ،وحلت مكان اسمائهم الحقيقية ،حتى انها لا زالت تلازمهم الى اليوم...
وانا احاول استقراء الذكريات الجميلة لهذه الفترة ،اجوب اغوارها المظلمة انفض عن بعضبفعل ابتعادنا عنها لما من ذررها ما واراه غبار النسيان ، بفعل ابتعادنا عنها بما يناهز الاربعين حولا ،مسترشدا في هذا الاستغوار بوميض تعليقات الاصدقاء الذي استعين به للاهتداء إلى ما لم انتبه اليه ،ولها القضل في ارشادي لجانب لا يخلو من اهمية وهو "توزيع الالقاب"....
وقد ساورني قبل الخوض في هذا الباب ، شعور غريب ظل يضطرم باحشائي شممت منه رائحة التانيب ظللت في حيرة منه ،لكن وبإشارة برقية منه الى الذاكرة ،تنبهت للزلة التي لم تكن لتصبح بسيطة لو لم اتداركها...
وفاء للامانة التاريخية ،لا بد من الاقرار بان الاجواء التي كانت تدخل السرور على على قلوبنا ،لسنا من روادا في تشكيل لبناتها الاولى ،وانما يرجع الفضل في ذلك لجيل الذين سبقونا وتتلمذنا على ايديهم، فكنا امتدادا لهذا الرعيل من الشباب ،نتقفى أثرهم ونحن صغارلنستمتع بطرائفهم و نستفيد من مهاراتهم، نسترق أُويقات لمجاورتهم المجالس ،نستغفلهم ما داموا هم انفسهم غافلين عن طردنا وانتهارنا عن ملاحقتهم....
لقد كانوا النمودج المثالي الذي كنا نقتدي به ،ونسير على نهجه ،ولا ننكر انهم كانوا ذوي تاثير على تكوين شخصياتنا ، هذا التاثيرالمصاحب لظرفية الحقبة وان كان عن غير مقصود منهم، ولا مرغوب فيه منا ، فقد كان ايجابيا كثيرا...
فقد كانوا في أوج الصراعات بين الدواوير ،يتكتلون لتشكيل فريق واحد لكرة القدم من ابناء الدواوير الثلاثة ،يقارعون اعتى الفرق بتاهلة ويحتلون المراتب المتقدمة في الدوريات و المنتديات الرياضية...
من حقهم علينا ان ناتي على ذكرهم ، ونحن نعتبر ذكرنا لبعضهم بمثابة رسالة تكريم للجميع..
لم نكن لنتخلف عن اي مبارات يخوضونها ،ليس رغبة في التشجيع و حسب ،وانما للاستمتاع ايضا بمهاراتهم والاستفادة من خبراتهم...
اكثر ما كان يحفزني على تقفي آثارهم، ارتماأت الحارس "احمد بن قدور" الذي لم يكن جسمه المرن ليخونه ،ولا مهارته لتخذله ،في الارتقاء بجمالية ناذرة ،فكان لارتماآته الجانبية سحر يسلب الالباب ،يذوذ عن مرماه بقتالية ناذرة...ومهما كانت مهاراته عالية ، ما كانت منفردة لتصنع الفارق ،وتحقق المجد لولا تآزر الاعبين في لعبة بندها الرئيس تظافر الجهود والتكامل في اطار جماعي، فكان لكل من "علي اوراغ" ،"عبد الله بوطالب"، "قاسم اوراغ" "حنين"، "اسنوس رحمه الله" ، "عبد الله والفاقير"، "وظاف"...واللائحة طويلة، الفضل في تكوين فريق قوي اعتلى صهوة حقبة ذهبية يعجز الزمان عن محوها من ذاكرة من عاصرها ...
فقد كان "علي اوراغ"او"علي وليشفا"كما يحلو للبعض تسميته،بطول قامته يتحفنا بتقنيات مراوغة تذكرني باللاعب الدولي "التيمومي" ،كما اتسم اخوه "قاسم"بالتمريرات المتقنة و القذف القوي ، بينما كانت صلابة بنية "عبد الله و الفاقير"تقف سدا منيعا امام كل هجوم يشنه الخصم ، مبديا في ذلك وفاء مطلقا للمقولة الشهيرة ـــــ الى دازت الكرة هو ما يدوزش"
منهم تعلمنا ،وعلى ايديهم تتلمذنا ،وبرع ايضا جيلنا في هذه الفنيات والمهارات ،ولم نكن لنعدم الحراس و بيننا:"غالم علي و محمد ،و بتي كاوكاو"ولم يكن تمت نقص في الدفاع و"لحسن غالم رحمه الله ،واخرامشي،وافراو "حاضرون ،اما الهجوم فكان يعج بذوي المهارات نذكر منهم "محمد اصبان(الملقب بالرطاف)،احمد لعبوب(رحمه الله)،عبدالله(عبِّيلا)،الحديوي، احلاو (رحمه الله) ،لعناية(رحمه الله) ،بلالو ،بوثعالم ،عجوج....واللائحة طويلة...(يتبع
بوح الصمت (7)
لم اكن لانآى بنفسي عن الاستمتاع بهذه الاجواء التي تميز فترة الشباب، فانغمست كباقي أقراني احدو حدوهم وأجاريهم في كل ما يأتون على فعله..وما كانت عزيمتي المتوقدة لتقنع بالوتيح من كعكة هذه الانشطة التي تحفل بها القرية خصوصا في ايام العطل المدرسية . فكنت ابذل قصارى الجهيدى اتسلطع من الاقران ،لا أُبدي وبَاطًا ولا بِطَاءً كي لا اكون هدفا لغمزاتهم و استهزائهم.....
تقلبت ومعشر الزمرة كل منقلب، احاكي افعالهم كي اكون لهم بَوَاء ،وغالبا ما كنا نتوارى عن انظار المارة ،ونختار الاماكن الشجراء بجانب النهر بعد تسويتها بترصيف الحجارة وتغطيتها باوراق شجر "ابليلوز"وعروش "الدفلى" ،نتكوم فوقها في حليقات نتبادل فيها الادوار على العاب الورق...
اما السهرات الليلية فتكاد تكون يومية ايام العطل، وما كان العثور على مكان السمر، والالتحاق بالزمرة ،ليلتبس على المتخلفين منا، فإن لم تكن "تالعينت او العين ،فحتما تاغروت او احفور اشال" ،كلها أماكن تشهد على المجون و العربدة ،على عبث الشباب الذي يوفر له هذا الفضاء مساحة للتحرر من كل القيود ،في منآى عن فضول مآقي الكبار، هكذا اسسنا اذن لامبراطورية دستورها الحرية المطلقة يرعى امنها الاحترام المتبادل في جو من الديموقراطية العفوية التي كانت غائبة عن مناهج المؤسسات والمعاهد الرسمية آنذاك...
مقالب البعض في البعض متعة وفرجة ،اصوات على اختلاف طبقاتها تصدح بالشدو و الغناء ،نكت من هنا و هناك ،دخان وحشيش وشعاليل الاشواك ،تبادل للآراء ومناقشات ،استقراء للاخبار و جديد القرية ،اعراس ،بنات ،رحلات ،اسفار ،مغامرات ...لا احد هنا يخفي شيئا عن احد ،ولا احد يجرؤ الاستعلاء على احد ،الكل في كفة واحدة ،في نفق واحد ،جسم واحد و روح واحدة....
تمضي أُوَيقات السمر مرور البرق ،وكان الليل مختزل في ساعة او بضع ساعة ، واحيانا لا يدفعنا للمغادرة الا صوت "الفقيه"وهو يدعو المتضرعين الى صلاة الفجر ،فنهب متثافلين بالكاد نفتح الرموش وقد دب النوم الى الجفون ،ليذهب كل الى حال سبيله ،وقد جعلنا المكان مقبرة لكل اسرار الليل...
لم نكن حينها لنهتم بنوع الطعام ،او نعبأ بشكل اللباس ،فقد عودتنا الايام و طوعنا الفقر لالتهام كل ما توفر:خبز وشاي، زيتون ،بطاطس ،فلفل ،تين ،رمان ،زيت ، لبن ، بازين ، احلاو....اي طعام توفر يُلتهم بشراهة دون اعارة اي اهتمام للفائدة او الطعم او الرائحة...اما اللحوم الدسمة ، فموعدها يوم السوق مشفوعة ببعض الفواكه التي لا تتوفر محليا ، لذلك كان يوم الخميس بمرتبة العيد ،وكانت له مكانة خاصة بالنفوس لانه يوم السوق الاسبوعي بسيدي عبد الجليل....................(يتبع)
علي
بوح الصمت (8)
يبدأ الفتور يدب الى حركية الانشطة الشبابية ، بتناقص افرادها مع حلول أواخر ايام شهر شتنبر ، فتكتئب طبيعة المنطقة وهي غير قادرة على مداراة حزنها،وقد ألفت أُنسهم واعتادت على صخبهم،تترجم كمدها رياح خريفية تهب قوية باردة تيتم الاشجار إذْ تجتث اوراقها المصفرة لتتركها عارية بدون كساء،تُقَوِّحُها مُقَنْفِشة إياها لتتخذ من مُعُنات الاودية رموساً لها، معبرة عن الغضب الذي يكتنفها وهي تبدي الكَأْبَاء جهارا لفراقهم ،كآبة أم لا زالت تعصرها لوعة فراق ابنائها...
لا عليك ايتها الام الحنون، فما كان فراق حضنك الدافئ أمرا مرغوبا، وانما أرغمتنا عليه ظروف أقوى ،وابعدنا عن صدرك ما هو اجدى و انفع ، فلا تغضبي منا ولا تقلقي إذ تريننا ننفضُّ من حولك ،فما جرفتنا سنابك المعمور الا طلبا للعلم ورغبة في تغذية العقول..
شكرا لك على صدرك الرحب ،ونشهد انك ما قصرت ابدا في شحن النفوس بما يكفي من الحنان والدفئ لتنصرف في اتزان مصممة العزم على النهل من ينابيع المعرفة بما يغذي عقولها لتكون أهلا للثقة التي منحتها.....
تعرف اواخر ايام شتنبر تناقصا متزايدا للاصدقاء، كل يوم نفتقد مجموعة، يلتحقون بالمدن التي يتابعون بها دراستهم ،يستقلون وسائل النقل وفي سواعلهم غصة تخنق الانفاس من حرقة الفراق ، في مداراة بينة للعبرات بالمحاجر تبررها انفة مسترجلة...
لم يعد "الحوط" يعج بالاصوات الصاخبة وهي تتبادل الصراخ في نقاش محتدم حول من له الاسبقية في اللعب ،ومن سيبقى على دكة الاحتياط ،وانما اصبحنا نقتفي اثر من بقوا في الدواوير تقييفا، علنا نتمكن من جمع بضع افراد لاجراء مباراة...
ما اشبه حالنا بحال قريش في ترحالهم ، فرحلة صيفنا وجهتها "تالعينت"والمرافق المكملة لها ،بينما رحلة الشتاء وجهتها "تاهلة" ومؤسساتها التعليمية ..
تنعم الطريق المؤدية الى "تاهلة"عبر الشواشي بالهدوء والسكينة الى حدود بداية شهر اكتوبر، حيث تعود اليها الحيوية من جديد ،بالتحاق المستقرين بالبلدة بمؤسساتها التعليمية ،لتبدا رحلة عام دراسي جديد ،بكل ما يواكبه من مشقة وعناء....سبع كيلوميترات بالتمام والكمال ،يحفظ كل واحد منا مسالكها :احجارها و اوحالها ، سهولها ومنحدراتها ، شعابها واوديتها ،عن ظهر قلب ...
كل شبر من ترابها، وكل حفرة من حفرها ،كل حصاة من حصواتها ،محفور بذاكرة الصغير والكبير منا ، نقرا عليها تحية الصباح واللَّيلُ لا تزال فلول ظلامه تترنح بالاجواء تجر تلابيبها بتؤدة تطاردها تباشير الصباح التي بدا طيف انوارها ينتشر رويدا رويدا ، كما نبادلها تحية المساء وقت الرواح وقد انعكست الآية و كرَّ غبش الليل على ما بقي متأخرا من انؤر النهار يخبو وهجها على مهل...
رحلة اعمار شكلتها ثنائيات عجيبة في تناغم فطري فرضته الطبيعة : خطو متسارع وتناوب الشهيق والزفير ،كَرٌّ و فَرّ دائمين لجهنة الليل و نور الصباح ،بكور ورواح لاقدام غضة معتادة عناق الوحل و وخز الحصى ،رحلة يومية لا يكسر كاحلها او يهد عضدها الا العطل التي تتخلل السنة الدراسية......(يتبع
بوح الصمت (9)
كانت امي رحمة الله عليها،اول من يكسر سكون الصمت بالليل،تقوم قبيل الفجر،تسدل إزارا مهترئا على ظهر يكشف تقوسه الاثار القاسية للزمان عليه ،تتقي به لفحات البرد التي غالبا ما تهزم أسمالا انخرمت خيوطها لتنفذ الى مسام جسد تعيث به قِفَّةً وارتعاشاً بعد تَوَرُّخه في دفء "تاحلاست"قطيفة ساخنة، تقطع فناء الدار المنكشف كليا على نجوم العلياء ،بخطى حثيثة كي لا تزعج احلام من هم نيام، توقد النار بكانون يوجد في ركن غرفة يطلق عليها مجازا اسم "الكوزينا" ،تضع فوق شعاليله اناء ماء تكاثف قُنُوُّه من كثرة معانقته للهب النار، واستجابة لضغط الجاحم من تحته 'لا يملك الماء الا ان يعلن الاستسلام بزفرات من البخار الحارق لتعمد الام الى اعداد قهوة منسمة بأعشاب الزعتر و مَانْتاَ تكسبها نكهة تشتم عطرها عن بعد ، ثم تضع "فراحا" اناء طينيا على "إِنْيَان" (ثلاثة احجار توضع حول الكانون) لتسخين كسور ما فضل من خبز عن عشاء البارحة...
يقوم بعدها والدي (رحمه الله)ليجد الماء دافئا للوضوء ، يؤديان معا صلاة الفجر و فريضة الصبح...
في تلك اللحظة ،يكون جسمي الصغير منكمشا لا يملك الا استحلاء دفء الفراش وحلاوة النوم ،وقد استشعر برودة يبرق بها الصقيع الذي هيمن على الجو بالخارج،من لفحات البرد التي تنسرب من شقوق الباب و النوافذ، لتلسع ما تعرى منالجسد النحيل فيزيد انكماشا في "اوشو نتحلاست".....
توقظني حركات واخزة ،اعلم من حنان ضغطها انها انامل امي، فافتح جفونا لا زالت مترنحة تنتشي بسلاف الكرى على مضض ،لتخترق مسامعي نبرات صوت دافئ: (اكّْر اممي اطَّفطرت باش ارخش يكور الحال)..افرك مقلتي براحة اليد لانفض عنهما رواسب الخمول ،وتتدفق الدماء الى عروقهما مستنفرة معها باقي الاعضاء لرحلة جديدة....
ننطلق وقُنُوُّ الليل يحجب عنا الرؤية وكانه يرغمنا على ان نُحَجِّم الابصار على مواقع الاقدام التي بالكاد نميز اماكن الوطء بها تجنبا لاي انزلاق او عثرة قد تؤدي الى سقوط غير مرغوب ، كل واحد منا يتابط محفظة حشا جزءً ا منها بالكتب و الدفاتر وبالجزء الآخر مؤونة اليوم التي يسد بها رمق السغب في فترة الراحة الفاصلة بين فترتي الصباح و ما بعد الزوال....
الجد في السير مرغوب رغم الخوف الذي استشرى بالاوصال وإن أبت علينا الانفة كتمانه ،لا مجال لهدر دقيقة واحدة ولو لاراحة الانفاس اللاهثة و التي يُثَوِّرُها تسارع الخطو في خبب اشبه ما يكون بخطو الخيل عند بداية كل جولة من جولات "التبوريدة" ، فاي تاخير عن موعد الدخول يقابل بتنكيل لفظي من الحارس العام"عبروق" قد يكون اقسى من العقاب البدني....
تنسرب الاجساد الصغيرة من روافد: آيت عبد الواحد ،احريرن ،اعجعاج ،اكركور و ايت عسو، وتتلاحق الجموع عند "ايزمريطن"مشكلة مجموعات تملا الطريق لغطا وهرجا ، يتلاشى معها الخوف الذي كان قبل قليل يخيم على النفوس ، ليحل محله الامان الذي وفرته الجماعة وانوار الفلق التي بدات ترغم جُهْنَة الليل على الانجلاء ، تتضح معها الرؤية لتعانق الانظار سنابك المنطقة تستكشف اوديتها و هضابها ، شجراءها وقاحلها ، خلاءها ومعمورها ، تهيم ومضات النور المتوقدة من المقل في منافذ هذه التضاريس المتنوعة ، ليس استمتاعا بجمالها ،وانما لصرف التفكير عما بدا يكتسح الركب الصغيرة من وهن وعياء ،لا مجال للاستسلام له ،إذ لا بديل عن مواصلة السير بنفس السرعة، بنفس النَّفَس ، بنفس العزيمة ، لكي لا تضيع منا حصة دراسية.......(يتبع
بوح الصمت(10)
تشكل قنطرة "زرودان"نقطة تحول فاصلة لمراحل الرحلة لمعطيات عدة نذكر منها:انها بداية طريق شبه معبدة تريح الاقدام من غويط الوحل الذي يعيق التحرك كلما بلته غبشة من سماحيق الغيم، نضطر معها الى نزع الاحذية والنعال لنقتحم سواخها الرخو باقدام حافية، تيسيرا للحركة ،وحفاظا على النعال من البلل والاتساخ...
نستغل لحظة الوصول الى القنطرة ،وننتهز فرصة التوقف لتنظيف سيقاننا من بقايا الاوحال بمياه النهر و العلاجم المتناثرة هنا و هناك،لناخذ معها قسطا من الراحة، نهدئ بها روع الانفاس اللاهثة ،لنواصل السير منطلقين في سعي حثيث وقد تحررنا من وهن المسالك المطينة ،نستهلك ما تبقى من مسافة الطريق في مناقشة درس في الاجتماعيات او الفلسفة ،او حديث عن هذا الاستاذ او ذاك....
تلك عادتنا ، وذاك دابنا طوال سنوات الدراسة ،فنصف إعدادنا ومراجعاتنا لما كنا نتلقنه في الفصول الدراسية، نعمل على تركيزه بالاذهان بالنقاش و الحوار المستمرين طوال هذه الكيلوميترات السبعة ،او باحضان اشجار الزيتون و الصنوبر المنتشرة بمداخل القرية قبل ان يعمها وباء التعرية وينخرها سوس الاراذل البشرية،،،
لم تكن المشقة لتكسر العزيمة في نفوس اغلبنا ،ولا الفقر ليعمق فينا الاحساس بعقد النقص ،وانما كان اغلبنا يقف ندا للند مع ابناء "الفيلاج"الذين غالبا ما لا يخفون ملامح التير و التيهان وقد تملكتهم نزعة التسلط ،يوهمهم رواحهم الى رحاب جدران إسمنتية ،وقربهم من محيط المؤسسات انهم بذلك استفردوا بمفاتيح الحضارة ، شعور رسخ في بعضهم وهم التعالي والاستكبار،تترجمه نظرات الازدراء تجاه كل "عروبي" وافد من الدواوير المجاورة ،وغالبا ما كان هذا الصراع الخفي يطفو ليحتد في المبارزات الرياضية او المناقشات الصفية وقد يمتد احيانا الى مناوشات في التجمعات خارج اسوار المؤسسة.....
وفي الحقيقة ،لم تكن احوالنا الا لتوحي لكل متامل بحجم المعاناة ،اسمال بالية ، احذية مرقعة،غذاء لا يسمن وان كان بالكاد يدرا الجوع ،عذاب رحلة لا تنتهي ...عقبات كؤود صممنا على اقتحام غياهبها ، وقد وضعنا امامنا هدفا لا محيد عن بلوغه
تحصيل ما نستطيع من علم...........: ..
كثيرا ما كنا نرتاد الفصول مرتعدي الفرائص من بلل الامطار التي تهرقها مجاديح السماء طوال الطريق ، فنتخذ لانفسنا اماكن في المقاعد الخلفية من القاعة ،لعلنا نتقي بتوارينا نظرات المقل الفضولية..
تنزف ذباديب اسمالنا ، يتعاقب من تحتنا وقع القطرات، سرعان ما تتحد لتشكل سيلا ينساب على ارضية القاعة ببطء تارة وبسرعة كلما تعانقت روافدها الصغيرة تعطي السيل دفعة قوية بتكاثفها.تثير انتباه الحاضرين ,لترمقنا عيون تارجحت نظراتها بين الازدراء والعطف........
تتهلل اساريرنا لسماع الجرس وهو يعلن نهاية الحصة الصباحية , لنتخلص معه من ارتعاشنا المتواصل يالاقسام , نتوهس الخطو شوقا لمعانقة الدفء الذي تجود به الشمس ,نتسلل من خلال طرقات ضيقة في اتجاه اماكن معشوشبة نستلقي فوقها ,نغتنم الانتشاء بمويجات الحرارة التي تسمح السحب العابرة بمرورها الينا ..
يخرج كل واحد قوت غذائه .قطع خبز بارد ,زيتون , لبن ...ثلاثية تكاد تكون حاضرة على الدوام ,,,,,
تلكم مقتطفات من معاناة زمرة من الاصدقاء ,ارجو ان اكون قد وفقت في تبليغها بصدق لابناء تفتقت اعينهم على سبل للحياة معبدة , وقد لا يفقه بعضهم معنى الوحل والبلل ,ولم يتعرضوا لمرارة السغب واهوال الترحال و الجوسان بالاسحار .لاقول لهم بان فئات عريضة من هؤلاء الاصدقاء هم اليوم رجال فاعلون في مجتمعهم , يساهمون في تنمية بلادهم , كل من موقعه........ لكل من وجد نفسه في بوح الصمت اقول ...تحية النضال الحقيقي..ودمتم بالف خير
بوح الصمت 11
وأنا أجوب للذاكرة أُفقها الشَّطين،ألتقط ما بقي عالقاً من ثمار ذكريات الطفولة على أفنان نخرتها تجاعيد مجاليح
الزمان، محاولا لملمة بعض الخيوط لإعادة ترميم ما ٱهترأ من ذكريات الشباب بفعل التقادم، تبادرت إلى الذهن صورة لحقبة متوقدة بالنشاط قد يكون من الجور تغافلها في هذا المقام: إنها سنوات الحيوية والنشاط التي أرخت لمواسم مبهرة من الدوريات الناجحة ب"عين بومساي".
فقد أبت عزيمة أبناء الدوار إلا أن تصد جهنة الفراغ القاتل بأنشطة مفيدة ،فأثمر حزمهم على ولادة فريقين:واحد للكبار وثان للصغار صقلت موهبتهما حماسة التنافس التي كانت على أشدها إلى درجة أن كان لكل فريق طاقم
يسهر على التسيير والتدريب.
كانت الأمور تؤخذ بغاية الجدية، حيث كان حضور التداريب إجباريا،وكل تأخير أو تماطل يعرض صاحبه لعقوبة
متفق عليها سلفاً، ولم تكن مناورات التداريب بالأمر الهين،حيث تنطلق الجموع من الملعب الذي هيأه الشباب شرق العين بجانب "تغزرت"، يرفعون مؤشر الحرارة للأبدان الغضة بعدو تثاقلت خطواته لتزداد بعد ذلك السرعة إلى أن يصير جهيزا تنقطع له الأنفاس،تعبر الجموع خلاله "لمراجع" ثم "تالويزت" إلى حدود "تاغروت" ليعرجوا بعدها على
"أحمد بنلهبوب" ثم "العين" لإنهاء مرحلة العدو من حيث بدأت.
ولم تكن المسافة باليسيرة لتباين تضاريس مسار المسافة المقطوعة،وبما أن لا مجال للتهاون أمام أفراد الفريق للمحافظة على مكانتهم داخله، كانوا يقبلون على التداريب بكل ما اوتوا من قوة إلى درجة أن البعض يواصلون العدو إلى حدِّ التجشّؤ و الإتاعة،وقد أصاب بطونهم القُداد ، لكن العناد والكبرياء يدفعهم إلى عدم الإستسلام..
يلجون الملعب تباعا لاهثين وقد تقطعت أنفاسهم و تدفقت مسامهم عرقا، فتتثاقل خطاهم راكنين لمشي خفيف مع
حركات التنفس إراحة للصدور المضطرمة التي لا يكاد هيجانها يفتر حتى تبدأ مرحلة جديدة من الحركات التي تستهدف عضلات مختلف أعضاء الجسد قد تستمر لأزيد من ساعة لتختم التداريب بتمرينات تقنية في المراوغة
و التمرير و القذف من مختلف الزوايا مع مقابلة مصغرة بين أعضاء الفريق تطبيقا لما تم التمرن عليه....تلكم صورة مختصرة ليوم تدريبي أيام كان الشباب على ٱنعدام أي مرفق للترفيه، يخلقون جوًّا من المتعة منقرضة ما أحوجنا إلى مثلها اليوم....
تدق دهمة الليل وهي تنكس بيارق الأبصار جرس انتهاء الحصة،
فيجمع الشباب ملابسهم المكومة على جنبات الملعب، وينحدرون في اتجاه منبع العين، الذي حررته ظلمة ابن جمير من الزوار الذين يتوافدون عليه لاغتراف زلاله ، فاسِحِين المجال للأجساد المنهكة تبترد وتنظف الأتربة
بوح الصمت 12
تبدأ فكرة تنظيم دوري في كرة القدم تتمخّض في لقاآت السمر الليلية، سرعان ما تفضي إلى ٱجتماع لتعيين أعضاء اللجنة المنظمة بطريقة عفوية، تباشر على التَّوّ مهمة الإخبار و التنسيق بين مختلف الفرق: إفران،جنان،فندل،الإخلاص،الإزدهار،مطماطة،بوزملان،بالإضافة الى فريقي الدوار...تلكم أهم و أبرز الفرق التي كانت تخلق الفرجة والمتعة أيام الفصل الحار،متعة عشناها أضحت اليوم أمنية تلاشت ملامح تحقيقها...
يتفق رؤساء الفرق على اجتماع بمطماطة أو تاهلة،يتم فيه الإتفاق على كل التدابير،من مساهمات الفرق المادية و آليات التنظيم،إلى القرعة و تكوين المجموعات و تواريخ المباريات...
لا شيء يترك للصدفة،حتى أدق التفاصيل يتم الإتفاق عليها، وينطلق الجميع يغشاهم حماس لا نظير له اليوم ،إلى العمل يدا واحدة لإنجاح التظاهرة ...
ما أن تسطع شمس أول يوم من أيام الدوري ،حتى يتسارع الشباب إلىالملعب لإتمام آخر الترتيبات: تحديد خطوط التماس و الوسط والمعترك بأتربة "أحفور أشال" الأبيض،تزيين الجنبات بما توفر من أعلام، حتى إذا إلى أن كل شيء جاهز،عادوا أدراجهم يهيؤون أنفسهم لحفل الإنطلاق، الذي يكون عادة على الساعة الثالثة بعد الزوال...
تبدأ الوفود المشاركة بالتوافد على المكان، وتنسرب جموع الوافدين تلفظهم الهضاب المجاورة للدوار بحثا عن الفرجة، بينما يصل أفراد الفرق النائية مستقلين الشاحنات أو عربات الجرار، وهم يرددون شعارات و أهازيج ، فتشرئب الأعناق لاستطلاع مدى كثرتهم التي غالبا ما تكون مؤشرا على عزم قوي لاحتلال المراتب الأولى...
يئْتصُّ أطفال من مختلف الأعمار خلف خطوط التماس، تسمع لهم لغطا يختلط فيه الصياح بالتصفير،والهتاف بالتصفيق ،بينما تجبأ مجموعة من شيوخ الدوار على الملعب من ربوة مرتفعة، وقد أثثوا جلستهم بما لذ من فطير وشاي يُلَبُّون شهية البطون و بمتعون الأنظار وهم يتابعون المقابلات، تسمع لهم صيحات تشجيع حينا ،و
وعيد حينا آخر وهم يتفاعلون مع مجريات اللعب ،وكلما نشب صراع و أجَّه حِدام المنافسة وجدتهم متدخلون لتهدئة النفوس و إعادة الأمور إلى نصابها...
بوح الصمت 13
استحلت اللمسة الحريرية من قميصها الداخلي،منسمة بنعومة قطنية،على حلمتيها و هو يداعب لَوْعتيْهِما كمن يستفز وضعهما الدائري،وقد بدت سمات النضج على الجسد الضامر، لتشوب لونهما الأصلي لفحة احمرار توقد في الصبية حيوية الأدراج الأولى على سلم الشباب....
تتهلل الأسارير و تجحظ مقلتا عيون سبلاء أمام المرآة التي تعكس كل التفاصيل، تقف على رؤوس الأصابع لأخذ صورة كاملة غير منقوصة، تمرر البصر في كشف دقيق لكل أجزاء الجسم،يعتريها قلق وتوتر يفضحه سعيها الموَّار بين جدران الغرفة،ذهاب و إياب و حيرة، تعض على البنان بعواجم غضة وتستغرق في تفكيرعميق بحثا في الذاكرة البعيدة عن شيء قد يكون السهو سارقه منها، تعود إلى المرآة، تستدير يمنة و يسرة والبصر مسمر على ما تعكسه كواشف الزجاج ليخضع للتمحيص، تمد أنامل صغيرة تشد بها تلابيب القميص أسفل الجأْبة ،يروقها منظر الصدر الذي بدا ٱنتفاخه أشبه ما يكون بتأثير الخمير في العجين، انقشعت شفتا وجه متورن من كثر التدهن، عن ابتسامة خفيفة تبصم على حالة من الرضى..
اخترقت مسامعها رنات زغاريد تنبعث من مصدر غير بعيد ،أرهفت السمع وهي تشرخ سبائب الشعر بمشط دقيق الأسنان لتنسدل على أكتافها في نعومة خصلاته تنوع في انسيابية فطرية كما الأفنان إذ تداعبها نسائم الأصباح الباردة ، تضع في راحتيها نقط دهن ميدم ، تفرك كفيها بقوة، تمررهما على خصلات الشعر لتزيدها انسيابية ونعومة ...
أغلقت الباب وراءها، و أطلقت ساقيها للريح في خطى سريعة لتلتحق بجموع نساء الدوار و مشاركتهن طقوس "لباس العروس"
العروس مركونة في زاوية من الخيمة ،وقد تحلقت حولها نساء من مختلف الأعمار ،يلبسنها الأزياء التقليدية المعروفة في قبائل "بني وراين" والحلي المرافقة لها :تبردوحت ،لزار ، تسغلاي، طبرطين، اموشكن....على وقع أنغام تحيل ألحانها على الحزن أكثر مما توحي بالفرح و النشاط، وكأنها متعمدة لتذكي في والدي العروس نار اللوعة لفراق سليلتهما ،فتنهمر دموع الأم رغم الجهد لمداراتها وهي تصغي لأصوات شجية مرددة:
يا بسم الله يا بسم الله
نبدا سربي نبدا سربي
اد محمد اد محمد
اديدنغ ييلي اديدنغ ييلي
للا تسفرجلت للا تاسفرجلت
توا تاورورغ توا تاورورغ............واترك لكم اتمام الباقي مع تحياتي
بوح الصمت 14
عجَّ محيط البيت بالحركة منذ بزوغ أوَّلِ خيط من أنؤر الصباح ،ليبدو أشبه ما يكون بخلية نحل في تنقلات أفرادها ، يعلو صوت "سي محند" وهو يوزع الأدوار و يصدر الأوامر ، ليقينه بأن الأمر ليس بالهين كما يعتقد البعض، فتسمعه يردد بين الفينة و الأخرى "ونّْ ينَّان هَوْنن يسلان ييمسن غير أمان"...
بخطوات متسارعة ، تنتقل الأم بين البيت و المكان المخصص للطبخ ، تمد المكلفات بالطبخ بما قد يلاحظن من خصاص وهن لا يتوانين في استشارتها في أدق التفاصيل.
تعلو بالداخل زغاريد الجارات وقد حضرن باكرا للمساعدة ،لا تفتر حناجرهن من الصدح بكل ما يحفظن من ألوان الغناء و الشدو تشيد أشعارها بمناقب العائلة و محاسن العروس..
يتكلف أبناء الجيران بإحضار الأفرشة و مختلف الأواني وكل ما تستوجبه لحظة الفرح هذه تلبية لحاجيات المدعوين ،ينصبون الخيام، ويعدون الرحاب، يسوون كل معقوف و يطوحون بالأعشاب و الحجارة متخلصين من كل ما قد يعيق المدعوين و فرق أحيدوس..
تآزر قلَّ نظيره ، له نكهته الخاصة في تمتين الصلات و تآلف القلوب، أرى وهجه يخبو اليوم بظهور مموني الأعراس و ٱكتساحهم للساحات حتى في البوادي النائية...
عادات كانت على بساطتها تزرع البهجة في أعماق النفوس، نعيش احتضارها نفسا بنفس ، يشدنا إليها الحنين بينما عجلة الزمان ماضية لا تترك لها أدنى فرصة للإستقواء من جديد، تسرقها منا أنياب الريع المتوحش الذي أشهرته سرعة العصر آتيا على كل جميل....
فأينك يا زمان الأمن والأمان؟ أينك يا عهد البساطة و القناعة الذي كنت توفر لنا سعادة الروح بصحن خبز و زيتون لا نجدها بموائد اليوم التي تقدم دسائمها في صحون من الرياء؟
أينك يا زمان "تويزي" و "الحصادين" و "المناجل" و "البيادر" و "تافوين" ،،رحمة الله على كل جميل أصيل.......
حول صينية للشاي، لا يكاد إبريقها يستعيد أنفاسه من لهب النار،حتى يعود إليها وجوفه مترع بحبيبات الشاي الممتاز و أطواب السكر ينسمهما عطر وريقات النعناع المحلي، تحلق بعض الجيران وهم يتجاذبون أطراف الحديث وقد أنهوا للتو تناول وجبة الغذاء، جلابيبهم البيضاء توحي نصاعتها على أنها نُظِّفت خصيصا لهذه المناسبة،لفات العمامات هي الأخرى تدل على تجدر في الأصول الورينية العريقة...
غدو و رواح "لسي محند"بين الخيام و البيت، يجر خطواته في تؤدة يوحي تمهل أقدامه على شروذ للفكر، يجول ببصره هنا و هناك بحثا عما قد يرى من خصاص
ليستدركه بالأوامر الصارمة في الوقت المناسب قبل أن تمتلئ عليه الرحاب بالوافدين
بوح الصمت 15
بُعيد العصر بقليل تصل فلول الأهل القادمين من المناطق النائية، مهنئين مباركين، يُقابلون بالعناق وحفاوة في الترحيب ، يقدمون الهدايا على أنغام الزغاريد التي لا تكاد تفتر، يعم المكان لغط و هرج لا ترى له فتورا حتى يستقر الوافدون في أماكنهم بالخيام ، الرجال في خيمة ،والنساء في حوش الدار،يتبادلون الأخبار و يسترسلون في أحادلث متشعبة المصادر وهم يرتشفون جرعات الشاي المنعنع...
يُسمع صوت لأنغام أحيدوس منبعثة من الأفق الشطين ، تشرئب الأعناق في عفوية و الأسماع مرهفة لاستطلاع الأمر، تقع الأنظار على طلائع موكب أطلت من علياء ربوة تتقدمه بغلة يمتطيها رجل،وإلى جانبه راجل يجر كبشا ودكاً بالكاد يسيطر على جموحه،وبجانبهما ثلة من النسوة وبضع أطفال، وفي الخلف مجموعة من شيوخ أحيدوس، تصدح حناجرهم بأنغام شجية تعكس صداها منحدرات الأودية المجاورة ، وهم يرددون أشعارا يستشف من كلماتها أنهم أتوا مباركين تلبية للدعوة ، ويرغبون في حسن الضيافة......
وضع" الحاج عمر" أصابع كفه فوق جبهته درءًا لنور الشمس، وضاقت عيناه وهو يحاول التعرف على الموكب ، وما هي الا برهة حتى استدار نحو الجمع قائلا :
"ود سي عياد "أيِين،يويد الضّْزِيوَ كّْرت غرد أتّْرحبم سْيَودان.....
ما أن لفح النبأ مسامع النسوة بالداخل ،حتى أسرعن بالخروج وأناملهن تتلمس تلابيب الفساتين يُسْدلن اطرافها المنكمشة ، يمررن السبابات على جنبات الجباه يعدن الخصلات الزائغة عن التصفيفة إلى وضعها الأصلي ، يتجوقن أمام الباب للإستمتاع برقص الوافدين....
ما أن وصل الجمع قبالة الساحة ، حتى صدح رب الأسرة بصوت جهور قائلا:
"كاط الله اخيرك اسي عياد..العيقبة نراش د الخير..وامرحبا بيكم الهل النغ"....
ترجل سي عياد مزهوا إلى جانب أخيه الذي يجر كبشا يصدر بصعوبة بعبعة مبحوحة من الودك والسمنة، وبعد تبادل التحايا و الترحيب ،شرع في تقديم الحمولة التي على ظهر الدابة:"زيت وسكر،دقيق وتوابل...."بينما راح أفراد الفرقة يترنحون في رقصات أشبه ما تكون بوريقات الصفصاف لَمَّا تهب عليها نسائم الغروب، مشكلين خطا منتظما فيما يشبه استدارة قوس(الريف) سرعان ما يكسر بياضَ جلابيبهم ألوان زاهية لفساتين النساء اللائي أسرعن للمشاركة في الرقص
بوح الصمت 16
آذنت الشمس بالمغيب ، فلول المدعوين لا زالت تتوافد على ساحة الفرح ، خيمة النساء ممتلئة عن آخرها ،لا بد من إحضار بضع أحصر إضافية تفترش على جنباتها لتستوعب المزيد من الوافدات ، أما خيمة الرجال فنصف عامرة ليس لنذرة الحاضرين ، وإنما لتفضيل البعض الوقوف في الهواء الطلق للخوض في أحاديث ثنائية في منأى عن مسامع الجموع ،بينما تقرفص بعض الشباب إلى جدوع الأشجار محتمين بغبش خلاف ظلالها من فضول المآقي فيما يشبه سمرا تؤثثه النوادر والنكت لا يفضح وجودهم سوى قهقهات تتعالى لهم بين الفينة والأخرى ، وهم غارقون في دخان السجائر يستلدون بطء انتحارهم في انتظار أن تبدأ "لفراجة".....
تحل بالمكان فرقة ثانية لأحيدوس مع حلول الظلام ،بستعرض أفرادها مهاراتهم في الرقص أمام الملإ وقد اختاروا لأنفسهم مكانا وطيئا في الساحة يتفننون في الترنح على إيقاعات "البندير" ، توجه نحوهم أبصار كل الحاضرين، يستطلعون و يلاحظون و يعلقون ، وكأنهم لجنة تحكيم تقيم درجة مهاراتهم حركة و صوتا..
يتوالى تقاطر الوافدين ، وأمام كثرتهم لا يملك القيمون على الحفل إلا أن يتكلفوا عناء إحضار المزيد من الأحصر وبسطها في وسط الساحة . وما أن تفرش حتى يتهافت نحوها الواقفون يتخذون فوقها أماكن تفتح أمامهم مساحة ملائمة للفرجة ، وبين الحشد يطوف ثلة من الشباب يتكلف بعضهم بالتنظيم فتراهم للصغار زاجرين مصدرين إشارات أقرب ما تكون إلى الوعيد والتهديد ، بينما ترى لهم تلطفا أشبه ما يكون بالتودد و التوسل تجاه الشباب و الكبار على حد سواء ، ومنهم من يطوف بصينية الشاي يوزع كؤوسها على الحاضرين....
هدأ المكان لحظة بعد أن أنهت الفرقة رقصها ، وشرع أفرادها في ارتشاف جرعات الشاي يستردون هدوء الأنفاس ، غير أن الفرقة الأولى لم تمهلهم وفاجأتهم من الجهة المقابلة بأولى الشذرات الشعرية لهذه الليلة،يرغمونهم على حفظها بسرعة وردها لتبدأ بذلك "لفراجة" في مبارزة شعرية غالبا ما يفرض جو الفرح مواضيعها على الشعراء ، حيث يبدأون بطلب الضيافة و التطرق لمناقب الأسرة في مدح أقرب إلى المجاملة لينصرفوا بعدها للموضوع الذي يفرضه الجو العام السائد في المكان ، فقد يهيمن عليه الغزل ،أو قد يسيل لعاب "الشيوخ" إذا ما لاحظوا تواجد ميسورين مهووسين بفن أحيدوس بين الجمهور ، ليكون المديح التكسبي الغرض البارز لليلة بدون منازع ، وإن تعذر الخوض في الأغراض السابقة ،فغالبا ما تتخذ المناظرة منحى مواجهة ساخنة بين الشعراء معترف عليها محليا ب"أقْلَعْ اللَّبْصل
بوح الصمت 17
يتناوب "الشيوخ" على الإلقاء و الحفظ ، وكلما صدحت حناجر أعضاء فرقة إلا و انتفخت أوداجهم لترتفع دبدبات حبالهم الصوتية إلى أقصى درجاتها و هم يرددون أشطر "إيزلي" قد يطول أو يقصر حسب الظروف ، تعلو له سواعد المتحلقين من حولهم ماسكة هواتف نقالة للتسجيل و التوثيق..
هتاف الجمهور وتصفيقهم ،مؤشر على جودة المضمون و دليل على أن الشاعر قد أصاب الرد و أتقن التركيب و الأسلوب ، فغالبا ما تشكل زغاريد النسوة وهتاف الجمهور الحكم الذي يقوي و يسند عزيمة الشاعر ،بينما يمرُّ رديء القول في صمت إن لم يُواجه بالتصفير و السخرية....
إن لهذه المقارعات الشعرية نكهة لا يستحليها إلا ذووا الصنعة والراسخون في عمق التراث الوريني ، و براعة هؤلاء الشعراء أمر لا غبار عليه ، فرصيدهم اللغوي و أوزانهم و قوافيهم محفوظة في الذاكرة راسخة في الذهن يغترفون منها كلما دعت الحاجة إلى ذلك ، مما ييسر عليهم سرعة النسج وفقا لما يتطلبه الرد على شعر الخصم...
غالبا ما يتعمد بعض الشعراء تعقيد النسج في "إيزلي" أو إطالته لتفويت الفرصة على الخصم في الحفظ و الرد السريع،إلا أن هذا النهج بات بدون جدوى مع ظهور الهواتف التي غالبا ما يستعينون بها على التذكر.....
ما أن ينتهي الشعراء من الإلقاء ،و تفتر أصوات المرددين مستكينة إلى الدرجة الأقصر للحن في لازمة "الّْغَا" ، حتى يبدأ باقي الأفراد بالإصطفاف إلى جانبهم ، يتخذون لأنفسهم أماكن غالبا ما يحبذون أن تكون في الوسط ، حيث الكل يتحاشى الأطراف"طشطيط" أو "إيجولال" ، وما أن تُسمع زنزنة الدفوف"البنادير" حتى يبدأ الرقص في حركات متناغمة يُقوِّم أوَدَّها شخص بارع في اللعبة يدعى "الشيخ ننّْديه" ، وهو الشيخ المسير الذي تسمع له بين الفينة و الأخرى صيحات مرددا كلمات يفقه معناها أصحاب الصنعة من قبيل :"على برا" "إلتك عزوز" "أهستو" "وا البال اهي البال"..........
ما أن ينتظم "الريف" حتي ترى للفتيات و النساء على حد سواء ، تهافتا على أماكنهن بين الراقصين ،تتفنَّنَ في الحَدْو حَدْوَهم و هن تترفلن في دباديب أزياء تقليدية ،مزركشة الألوان الشيء الذي يزيد الراقصين حماسة خصوصا أن للجنس اللطيف في هذا الفلكلور نكهة الملح للطعام لذلك ٱلتصق بهن مصطلح "تيسنت
بوح الصمت 18
ما يكاد لهيب الفرجة يتأجَّج ،حتى يشعر الراقصون بأَطيط الأرجاب ينقر أحشاء البطون ، ليحين موعد الإطعام ، يصطحب رب الأسرة أعضاء الفرقة الأولى إلى حوش لتناول العشاء ، فتسنح الفرصة للفرقة الأخرى للإستحواذ على الساحة تستعرض مهاراتها في الرقص تمتع أنظار المتفرجين ، إذ لا مجال لوقت ميت قد ينتهزه الملل ليدب إلى نفوس الحاضرين....
ما أن تنتهي الفرقة الأولى من تناول الطعام ، حتى يلتحق أفرادها بأماكنهم في الساحة ، فاسحين المجال لإطعام أفراد الفرقة الثانية ، وبذلك يكون صناع الفرجة أول دفعة يُقدَّم لها طعام الوليمة ليتفرغ أعضاؤها للمهمة التي حضروا من أجلها ، ليشرع القيمون على العرس بعد ذلك في إدخال المتفرجين فوجا تِلْو فوج لنفس الغرض..
مهمة ليست باليسيرة في البادية التي غالبا ما يحضر الشباب أعراسها بمجرد سماعهم النبأ ، دون حاجة لدعوة أو استدعاء ، مما يجعل مهمة التخطيط عسيرة إن لم تكن مستحيلة....
يتوالى في الساحة التناوب على إلقاء ما تجود به قرائح "الشيوخ"من قريض يَبْتَشِكون الكلام يُنَسِّقونَه تأْرِيضاً كُلَّما ركنوا إلى هُدْنة تهيمن عليها مُسْحة المجاملة،أو قد ينقلب إلى لفظ خشن يذكي نار الفتنة بما يحمل من مُرِّ المعاني لا يكاد طعمها يُستَساغ ،كلما توترت العلاقة بين القطبين لسبب من الأسباب تصل احيانا إلى حدِّ التّراشق بالكلام النابي.....
وبين هذا المد و الجزر ، تترنح متعة المتفرجين تنتشي بأطوار مقارعة تشتد إليها كل الجوارح ، متلذذة بحلو الكلام المنظوم ، وروعة الرقص الذي يعشقه أهل المنطقة إلى حدِّ الجنون......
لعجائز النساء طقوس شعوذة ترسَّخَت في أذهانهن على أنها حقيقة ثابتة لإذكاء شعلول "الفراجة" واستمرارها إلى الصباح ، فكثيرا ما تلاحظ عجوزا تحمل في ظهرها سكرا أو ديكا حيًّا ، تطوف خلف الفرق الراقصة وهي تُلَوِّح براية حمراء في الهواء ، لتعمد بعد ذلك إلى وَءْدِ الديك المسكين ، ظنا منها أن ذلك من شأنه أن يثني أعضاء الفرقتين عن التفكير في المغادرة باكرا ، مما قد يطيل أمد السهرة إلى الصباح....
طقس لن تجد له في مختلف العلوم تفسيرا ، ولا يستند إلى شرعية دينية بقدر ما يدل على السداجة التي يستبيحها كل شائب تظلله خوافي الجهل المخيم على عقول البسطاء ليعشش ويفرخ بداخلها كما شاء....
نفذ صبر كبار اعتادوا معانقة الفراش باكرا ،فغالب الكرى جفونهم التي تراخت أهذابها ، فهبُّوا بحثا عن ذويهم ،حاثِّين إياهم على الإسراع للإلتحاق ببيوتهم..
وهكذا تتتابع عمليات الإنصراف حتى تفرغ الرحبة إلاَّ من بعض النسوة والشباب الذين هادنوا الأرق رغبة في المزيد من السهر ، إلا أن ظنهم سرعان ما يخيب بقرار الفرق المغادرة وإنهاء الحفل
بوح الصمت 19
لا يستسيغ الرجال تباطؤ زوجاتهم اثناء المغادرة ، فتسمع لهم همهمات سخط تعبيرا عن انزعاجهم من تأخرهن يقول أحدهم لصاحبه :
="إوَ دَمْسروَاط أكّْتسدنانَ أُرعوّْلنت قَاع أَدْنْهزْمانتْ"
يردُّ آخر :
="تيسدنان هَنَّيَ القعيدة نّْسنتْ ، غاس أتِّنيتْ إطمطُّوط كّْرْ ، عاد يّْ أغلَّايْ أتّْعمَّرت أتايْ"
أمَّا الزوجات ، فهن تتعمَّدن التأخر ، وتأبين المغادرة فبل توديع ربة البيت طمعا في نصيبهن من بقايا طعام الوليمة، تراهن وقد تجوَّقن قرب الباب تتناوبن على توديعها ، وهي تمدُّ كلَّ واحدة كيسا بلاستيكيا يحوي بقية من الكسكس و اللحم ، تتسلَّمنه شاكرات و تنصرفن...
تخلو الساحة من زوارها إلا من فلول ضيوف قدموا من بعيد ، سلَّموا جفونهم أحضان الكَرَى مستلقين أينما وجدوا مكانا فارغا لذلك ، لترى في الخيمة أجساداً لبعض الرجال و الشباب مستلقاة كيفما اتُّفق ، يعلو من بعضها شخير تعزفه حناجرهم على غير وعي منهم ، تنوعت إيقاعاته التي تراوحت بين الطقطقات والصفير والنفخ..أنغام تعبر بجلاء عن الوهن الذي اجتاح أجسادهم من فرط السهر......
أما بالبيت ، فلا تخلو حجرة من أجساد مترامية هنا وهناك لنسوة و صغار نصف مُدثَّرين بما قد يقي من لفحات برودة الفجر،في إراحة للأبدان ولو لبضع ساعات ، في انتظار بزوغ أولى خيوط الشمس ، حيث ينتظرهن يوم جديد من الأشغال التي لا تكاد تنتهي.....
تسللت بوادر خيوط لأولى أنؤر الصباح إلى الخيمة ، معلنة ولادة صبح جديد ، ليفوم زوارها من رقادهم ، يغترفون من خابية بجانب البيت ماء يبتردون به لطرد شوائب الكرى عن جفونهم ، يتوضأ بعضهم لأداء الصلاة ، ثم يخوضون في أحاديث متنوعة في انتظار وجبة الفطور...
أطلَّ ربّ البيت من كوَّة طاقة بركن المنزل ، الذي ولجه باكرا يُعَاين ما خلفته عاصفة الأمس من فوضى بداخله ، وهو يستنهض همم النسوة للتعجيل بإعداد وجبة الفطور، ما أن لاحظ استيقاظ ضيوفه بالخيمة حتى اندفع نحوهم وهو يصيح في زوجته :
="أويدّ القهوة يْميدّن أدفطرن"
يتجه نحوهم مبتسما ، يحييهم ثم يبادرهم بالسؤال :
="ما التّْروحم شواي؟"
يرد أحدهم :
="إوَ كَمام نْسنّْد شواي ، وخَّ ينغانغ وسْماط أكد لفجر"
على طاولة أمامهم وضعت إحدى بناته صينية قهوة ، وصحونا بها من كل ميدم لون :زيت ، زبدة ، سمن ، عسل...وقطع خبز فتحلقوا حول المائدة يتناولون أول وجبة لهذا الصباح